إنهم فرسان نبلاء بكل تأكيد..
فرسان لحضورهم المكثف سواء عبر الفضاء الإعلامي أو من خلال اللقاءات المباشرة.
ونبلاء لأن الغاية شريفة ونبيلة.. غاية تتخلص في الذود عن حياض الدين الإسلامي، وصون شريعته وعقيدته من الأهواء والنوازع الماكرة، والسعي الدءوب لتنزيل تعاليمه وتوجيهاته على أرض الواقع، حتى ينسجم التصور مع السلوك، ويثمر التفاعل بينهما سعادة الدارين.
بيد أن الفروسية والنبل لا يمنعان مساءلة هذا الخطاب ورصد مواطن الضعف التي تحد من فاعليته وقدرته على الارتقاء بالوعي والسلوك، والتغلغل الإيجابي في البناء الاجتماعي والاقتصادي، مادام الأمر يتعلق بجهد بشري معرض للقصور والذاتية، والانفصال الجزئي- بل الكلي أحيانا- عن الواقع، وما يحبل به من قضايا ومشكلات. وتبدو هده المساءلة ضرورة حيوية لتجاوز منطق التسليم والإذعان الذي يُضفي حالة من العصمة على اجتهادات وتأويلات بشرية.
لقد أتاحت تكنولوجيا الاتصال للخطاب الدعوي فرصة التحرر من قبضة الأجهزة الرسمية، وكسر طوق الرقابة الذي كبلها لعقود طويلة. فأسفر مخاض الحرية الإعلامية عن ميلاد فضائيات ومواقع إلكترونية دعوية أفلحت بشكل ملحوظ في إيصال تباشير الصحوة الإسلامية المجيدة إلى كل بيت. غير أن حجم التفاعل الذي يلقاه الخطاب الدعوي سواء من لدن عموم الناس أو من باقي مكونات الجهاز الإعلامي يكشف عن جملة من المؤاخذات التي قد يؤدي تجاهلها والتهوين من شأنها إلى إفراغ هدا الخطاب من مقاصده العملية، وحشره في خانة الإمتاع والمؤانسة!
وأول ما يؤاخذ عليه هو الاستغراق في الماضي، والإعجاب المفرط بأحوال السلف وأخبارهم ومواقفهم إلى الحد الذي يضيع معه مقصد استلهام الحلول العملية لمشكلات الواقع، ليصير الخطاب ضربا من الحكي الممتع والسرد المشوق.
يُلاحظ أن عددا من ساعات البث الإعلامي الدعوي تُهدر في التوصيف العجائبي لأحوال السلف، وتبرير الانجذاب المفرط لفترة نشوء المجتمع الإسلامي بوصف الخيرية الذي خُصت به القرون الثلاثة في الحديث النبوي المشهور.
واذا كانت قناعتنا راسخة بصدق هذه النبوءة لورودها عن أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، إلا أن تمثل دلالاتها واستقراء جزئياتها ينبغي ألا يقف عند حدود الانبهار والشحن الوجداني، بل يتجاوزه صوب وضع تصور متكامل يُخلص المسلم المعاصر من تبعات الهزيمة النفسية التي يحرص الغرب على ترسيخها.
قد يعترض قائل بأن الانكباب على آثار السلف ضرورة يُمليها مطلب تهيئ نماذج للاقتداء والرقي بالسلوك الإنساني. وبما أن المكتبة الإسلامية تحفل بمئات النماذج الإنسانية المشرقة التي تصلح لاتخاذها قدوة، فلا مناص من استفراغ الجهد في التنقيب عن مآثرها وحض المسلمين للنسج على منوالها.
وهذا طرح صائب لولا أن به دخن، ودخنه يكمن في تجاهل ما استجد في حياة الأمة الإسلامية من تطورات وإكراهات ومفاتن لا نلمس لها أثرا في مجتمع السلف الصالح. فمثلا عندما يتناول الخطاب الدعوي قصة النبي الله يوسف عليه السلام باعتباره نموذجا للعفة وصون النفس عن اقتراف رذيلة الزنا. فإنه لا يستحضر معطيات عدة منها أن مقام النبوة موصوف بالعصمة وهي خصيصة لا تتوفر لسائر البشر.
ثانيا أن الشاب المسلم المأمور هنا بالاقتداء يعيش وسط مجتمع يعد الاختلاط بين الجنسين سمة للتحضر والرقي، والعري حرية شخصية يكفلها القانون وترعاها المواثيق الدولية! ناهيك عن مئات المشاهدات المُغرية التي تتداولها وسائل الإعلام وتحاصر بها سمعه وبصره وكيانه، وبالتالي سنجد أنفسنا أمام أمة تجيد صوغ الأعذار والمبررات أكثر من استلهامها للعبر والعظات!
لسنا ندعو من خلال هدا الاعتراض إلى التخلي عن الاقتداء بالسلف الصالح، بل ما نؤكد عليه هو إحداث التوازن بين المطلبين: إدراج نماذج القدوة ضمن نسق تربوي متكامل يراعي معطيات الواقع المعاصر، والحرص على استلهام نماذج معاصرة يقدم مسارها ومواقفها حافزا قويا للمجاهدة والثبات.
أما المأخذ الثاني فهو لغة الخطاب الدعوي التي تشكو إلى الله ما تلقاه من هجر وصدود على يد من كانوا بالأمس القريب سدنة معبدها! فمن المُسلم به أن اللغة ليست فقط وسيلة تواصل بل رافدا مهما من روافد الشعور بالانتماء وخزانا للإرث الحضاري. وما يميز اللغة العربية عن باقي لغات العالم أنها لسان الوحي ولغة الشريعة.
غير أن ما نلحظه في الآونة الأخيرة هو إصرار بعض الدعاة على اعتماد اللهجات المحلية وسيلة للوعظ ونشر الوعي الإسلامي، وحجتهم في ذلك أن تقريب مفاهيم الدين وحقائقه وأركانه. يفرض التخلص من عوائق عدة في مقدمتها العائق اللغوي. كما أن تدني المستوى التعليمي لقطاع عريض من أفراد الأمة يجعل لغة التخاطب اليومي وسيلة مثلى للدعوة إلى الله. والحقيقة أن ضعف الملكة اللغوية وانحياز بعض الدعاة لمكاسب السبق الإعلامي يقفان خلف هذا التردي اللغوي. وإنا لنعجب حقا للشعبية الكبيرة التي تحظى بها بعض القنوات الإخبارية رغم أنها تعتمد العربية لغة وحيدة للبث. فكيف ينتفي هدا العائق هنا، وينتصب هناك؟.
إن اللغة كائن حي ترتبط قوته وضعفه بالبيئة التي يتواجد فيها، وحتى يكون الخطاب الدعوي على مستوى التصدي لحملات التشويه المغرضة لابد أن يتمسك بكل العناصر التي تضمن وحدته وانسجامه وفي مقدمتها اللغة العربية.
بينما يرتبط المأخذ الثالث بفحوى الخطاب ومضامينه التي لا تبتعد في الغالب عن الفقهيات وتفسير القرآن والسيرة وبعض أحداث التاريخ الإسلامي مع تغليب الصيغ الوعظية التي تؤجج المشاعر وتحرك أوتار القلوب. وإذا كنا لا ننتقص من قدر هذه المضامين ونؤكد على حاجة الأمة إليها، إلا أن اعتراضنا ينصب بالأساس حول إهمال هذا الخطاب للبُعد العملي الذي ينقل الأفكار والمعطيات والخلاصات إلى حيز الواقع. فبالنظر إلى ما تعيشه المجتمعات المعاصرة من حراك غير مسبوق على مستوى الإبداع والسبق في ميادين العلوم والتقنية، كان حريا بالخطاب الدعوي أن يولي اهتماما كبيرا للصيغ والمشاريع الاجتماعية والتربوية، ويُحفز أفراد الأمة على النهوض بواجب الاستخلاف، خصوصا في الميادين الحيوية التي تضمن للأمة الريادة والانعتاق من أسر التبعية والجهل. غير أن ما نلاحظه لحدود الساعة هو خلل في ترتيب الأولويات، واستفراغ الجهد في قضايا وإشكالات غير ملحة، بالإضافة إلى افتقاد جزء كبير منه للانسجام وتنسيق الجهود. وهو ما تنبه له أعداء الأمة والمناهضون للصحوة الإسلامية فشغلوا الدعاة بمعارك هامشية في الغالب، ودفعوا بهذا الخطاب إلى خانة رد الفعل.
إن الأمة بحاجة إلى خطاب يحض المسلمين على العناية بالتفوق في مجال العلوم والصناعة ويهيئ لشباب الأمة صيغا عملية ومبادرات حقيقية.
وهي بحاجة إلى خطاب يبث في المجتمع قيما عملية تُطمئن النفوس التي تجتالها صيحات التشكيك ودعوات التحلل من الوازع الديني.
وهي بحاجة إلى خطاب يُلامس المداخل الثلاثة للشخصية الإسلامية: مدخلها المعرفي، والوجداني، والسلوكي. لأن التفريط في أحد هذه المداخل يُربك التوازن النفسي للمدعو، ويدفعه لاحقا إلى التشكيك في جدوى ما يروجه الخطاب من قيم ومبادئ أمام مظاهر وتجليات الجاهلية الحديثة!
إن الخطاب الدعوي مُطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن يُعيد النظر في منهجه وأسلوبه ومواصفات القائمين عليه كي يستجيب بشكل أفضل لاحتياجات الأمة ومطالبها، ويكون في مستوى الأحداث والظروف المحيطة بها.
الكاتب: حميد بن خبيش.
المصدر: موقع المسلم.